فصل: القول في ابتداء الخلق وما كان أوله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)




.مقدمة الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد للّه القديم فلا أول لوجوده، الدائم الكريم فلا آخر لبقائه ولا نهاية لجوده، الملك حقاً فلا تدرك العقول حقيقة كنهه، القادر فكلّ ما في العالم من أثر قدرته، المقدّس فلا تقرب الحوادث حماه، المنزَّهِ عن التغيير فلا ينجو منه سواه، مصرّف الخلائق بين رفع وخفض، وبسط وقبض، وإبرام ونقض، وإماتة وإحياء، وإيجاد وإفناء، وإسعاد وإضلال، وإعزاز وإذلال، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، مبيد القرون السالفة، والأمم الخالفة، لم يمنعهم منه ما تخذوه معقلاً وحرزاً ف {هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً} [مريم 19: 98] بتقديره النفع والضرّ، {له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف 7: 54].
أحمده علي ما أولى من نعمه، وأجذل للناس من قسمه، وأصلي على رسوله محمد سيد العرب والعجم، المبعوث إلى جميع الأمم، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ومصابيح الظّلم، صلى الله عليه وسلم.
أمّا بعد، فإني لم أزل محبّاً لمطالعة كتب التواريخ ومعرفة ما فيها، مؤثراً للاطلاع على الجليّ من حوادثها وخافيها، مائلاً إلى المعارف والآداب والتجارب المودعة في مطاويها، فلمّا تأمّلتها رأيتها متباينةً في تحصيل الغرض، يكاد جوهر المعرفة بها يستحيل إلى العرض، فمن بين مطوّل قد استقصى الطرق والروايات، ومختصر قد أخلّ بكثير ممّا هو آت، ومع ذلك فقد ترك كلّهم العظيم من الحادثات، والمشهور من الكائنات، وسوّد كثيرٌ منهم الأوراق بصغائر الأمور التي الإعراض عنها أولى، وترك تسطيرها أحرى، كقولهم خلع فلان الذميّ صاحب العيار، وزاد رطلاً في الأسعار، وأكرم فلان، وأهين فلان، وقد أرّخ كلّ منهم إلى زمانه وجاء بعده من ذيل عليه، وأضاف المتجددات بعد تاريخه إليه، والشرقيّ منهم قد أخلّ بذكر أخبار الغرب، والغربيّ قد أهمل أحوال الشرق؛ فكان الطالب إذا أراد أن يطالع تاريخاً متصلاً إلى وقته يحتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددّة مع ما فيها من الإخلال والإملال.
فلمّا رأيتُ الأمر كذلك شرعتُ في تأليف تاريخ جامع لأخبار ملوك الشرق والغرب وما بينهما، ليكون تذكرةً لي أراجعه خوف النسيان، وآتي فيه بالحوادث والكائنات من أوّل الزمان، متتابعةً يتلو بعضها بعضاً إلى وقتنا هذا.
ولا أقولُ إني أتيتُ على جميع الحوادث المتعلّقة بالتاريخ، فإنّ من هو بالموصل لا بدّ أن يشذّ عنه ما هو بأقصى الشرق والغرب، ولكن أقول إنني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد، ومن تأمّله علم صحّة ذلك.
فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطبريّ إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافة عليه، والمرجوعُ عند الاختلاف إليه، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم أخلّ بترجمة واحدة منها، وقد ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذوات عدد، كلّ رواية منها مثل التي قبلها أو أقل منها، وربّما زاد الشيء اليسير أو نقصه، فقصدتُ أتمّ الروايات فنقلتها وأضفت إليها من غيرها ما ليس فيها، وأودعت كل شيء مكانه، فجاء جميع ما في تلك الحادثة على اختلاف طرقها سياقاً واحداً على ما تراه.
فلمّا فرغتُ منه وأخذتُ غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، ووضعتُ كلّ شيء منها موضعه، إلاّ ما يتعلّق بما جري بين أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئاً، إلاّ ما فيه زيادةُ بيان، أو اسم إنسان، أو ما لا يطعن على أحد منهم في نقله، وإنّما اعتمدت عليه من بين المؤرخين إذ هو الإمام المتقنُ حقّاً، الجامع علماً وصحّة اعتقاده وصدقاً.
على أني لم أنقل إلاّ من التواريخ المذكورة، والكتب المشهورة، ممّن يُعلم بصدقهم فيما نقلوه، وصحّة ما دوّنوه، ولم أكن كالخابط في ظلماء الليالي، ولا كمن يجمع الحصباء واللآلي.
ورأيتهم أيضاً يذكرون الحادثة الواحدة في سنين، ويذكرون منها في كلّ شهر أشياء، فتأتي الحادثةُ مقطّعة لا يحصل منها على غرض، ولا تُفهم إلاّ بعد إمعان النظر، فجمعت أنا الحادثة في موضع واحد وذكرت كلّ شيء منها في أيّ شهر أو سنة كانت، فأتت متناسقة متتابعة، قد أخذ بعضها برقاب بعض.
وذكرت في كلّ سنة لكلّ حادثة كبيرة مشهورة ترجمة تخصّها، فأمّا الحوادث الصغار التي لا يحتمل منها كلّ شيء ترجمة فإني أفردتُ لجميعها ترجمةً واحدةً في آخر كلّ سنة، فأقول: ذكر عدة حوادث، وإذا ذكرت بعض من نبغ وملك قطراً من البلاد ولم تطل أيّامه فإني أذكر جميع حاله من أوّله إلى آخره، عند ابتداء أمره، لأنّه إذا تفرق خبره لم يعرف للجهل به.
وذكرت في آخر كلّ سنة من توفّي فيها من مشهوري العلماء والأعيان والفضلاء، وضبطت الأسماء المشتبهة المؤتلفة في الخط المختلفة في اللّفظ الواردة فيه بالحروف ضبطاً يزيل الإشكال، ويُغني عن الأنقاط والأشكال.
فلما جمعتُ أكثره أعرضتُ عنه مدّةً طويلة لحوادث تجددت، وقواطع توالت وتعدّدت، ولأن معرفتي بهذا النوع كملت وتمت.
ثمّ إن نفراً من إخواني، وذوي المعارف والفضائل من خُلاّني، ممن أرى محادثتهم نهاية أوطاري، وأعدّهم من أماثل مُجالسيّ وسمّاري، رغبوا إليّ في أن يسمعوه مني، ليرووه عني؛ فاعتذرتُ بالأعراض عنه وعدم الفراغ منه، فإنني لم أعاود مطالعة مسوَّدته ولم أصلح ما أصلح فيها من غلط وسهو، ولا أسقطت منها ما يحتاج إلى إسقاط ومحو، وطالت المراجعة مدّةً وهم للطلب ملازمون، وعن الإعراض مُعرضون، وشرعوا في سماعه قبل إتمامه وإصلاحه، وإثبات ما تمسّ الحاجة إليه وحذف ما لا بدّ من إطراحه، والعزمُ على إتمامه فاتر، والعجز ظاهر، للاشتغال بما لا بدّ منه، لعدم المعين والمظاهر؛ ولهموم توالت، ونوائب تتابعت، فأنا ملازم الإهمال والتواني، فلا أقول: إني لأسير إليه سير الشواني.
فبينما الأمر كذلك إذ برز أمرُ من طاعته فرض واجب، واتّباع أمره حكم لازب، من أعلاق الفضل بإقباله عليها نافقة، وأرواح الجهل بإعراضه عنها نافقة، من أحيا المكارم وكانت أمواتاً، وأعادها خلقاً جديداً بعد أن كانت رفاتاً؛ من عمّ رعيّته عدله ونواله، وشملهم إحسانه وإفضاله، مولانا مالك الملك الرحيم، العالم المؤيّد، المنصور، المظفر بدر الدين، ركن الإسلام والمسلمين، محي العدل في العالمين، خلَد الله دولته.
فحينئذ ألقيت عني جلباب المهل، وأبطلت رداء الكسل، وألقيت الدواة وأصلحت القلم، وقلت: هذا أوان الشدّ فاشتدي زيم، وجعلت الفراغ أهم مطلب، وإذا أراد اللّه أمراً هيّأ له السبب، وشرعت في إتمامه مسابقاً، ومن العجب أن السكّيت يروم أن يجيء سابقاً، ونصبت نفسي غرضاً للسهام، وجعلتها مظنّة لأقوال اللّوام، لأن المآخذ إذا كانت تتطرّق إلى التصنيف المهذّب، والاستدراكات تتعلّق بالمجموع المرتَّب، الذي تكرّرت مطالعته وتنقيحه، وأجيد تأليفه وتصحيحه، فهي بغيره أولى، وبه أحرى، على أنّي مقرّ بالتقصير، فلا أقول إن الغلط سهو جرى به القلم، بل أعترف بأن ما أجهل أكثر ممّا أعلم.
وقد سمّيته اسماً يناسب معناه، وهو: الكامل في التاريخ.
ولقد رأيت جماعة ممّن يدّعي المعرفة والدراية، ويظنّ بنفسه التبحّر في العلم والرواية، يحتقر التواريخ ويزدريها، ويعرض عنها ويلغيها، ظنّاً منه أن غاية فائدتها إنّما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار، وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللبّ فنظره، وأصبح مخشلباً جوهره، ومن رزقه اللّه طبعاً سليماً، وهداه صراطاً مستقيماً، علم أنّ فوائدها كثيرة، ومنافعها الدنيويّة والأخرويّة جمّة غزيرة، وها نحن نذكر شيئاً ممّا ظهر لنا فيها، ونكل إلى قريحة الناظر فيه معرفة باقيها.
فأمّا فوائدها الدنيويّة فمنها: أنّ الإنسان لا يخفى أنّه يحبّ البقاء، ويؤثرُ أن يكون في زمرة الأحياء، فيا ليت شعري أيّ فرق بين ما رآه أمس أو سمعه، وبين ما قرأه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين وحوادث المتقدمين؟ فإذا طالعها فكأنّه عاصرهم، وإذا علمها فكأنّه حاضرهم.
ومنها: أن الملوك ومن إليهم الأمر والنهي إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان ورآها مدوّنةً في الكتب يتناقلها الناس، فيرويها خلف عن سلف، ونظروا إلى ما أعقبت من سوء الذكر، وقبيح الأحدوثة، وخراب البلاد، وهلاك العباد، وذهاب الأموال، وفساد الأحوال، استقبحوها، وأعرضوا عنها واطَّرحوها، وإذا رأوا سيرة الولاة العادلين وحسنها، وما يتبعهم من الذكر الجميل بعد ذهابهم، وأنّ بلادهم وممالكهم عمرت، وأموالهم درّت، استحسنوا ذلك ورغبوا فيه، وثابروا عليه وتركوا ما يُنافيه، هذا سوى ما يحصل لهم من معرفة الآراء الصائبة التي دفعوا بها مضرات الأعداء، وخلصوا بها من المهالك، واستصانوا نفائس المدن وعظيم الممالك، ولو لم يكن فيها غير هذا لكفى به فخراً.
ومنها ما يحصل للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث وما تصير إليه عواقبها، فإنّه لا يحدث أمر إلاّ قد تقدّم هو أو نظيره، فيزداد بذلك عقلاً، ويصبح لأن يقتدي به أهلاً، ولقد أحسن القائل حيث يقول شعراً:
رأيت العقل عقلين ** فمطبوعٌ ومسموع

فلا ينفع مسموع ** إذا لم يك مطبوع

كما لا تنفع الشمس ** وضوء العين ممنوع

يعني بالمطبوع العقل الغريزي الذي خلقه الله تعالى للإنسان، وبالمسموع ما يزداد به العقل الغريزي من التجربة، وجعله عقلاً ثانياً توسّعاً وتعظيماً له، وإلاّ فهو زيادة في عقله الأوّل.
ومنها ما يتجمّل به الإنسان في المجالس والمحافل من ذكر شيء من معارفها، ونقل طريفة من طرائفها، فترى الأسماع مصغيةً إليه، والوجوه مقبلةً عليه، والقلوب متأملةً ما يورده ويصدره، مستحسنةً ما يذكره.
وأمّا الفوائد الأخرويّة: فمنها أن العاقل اللبيب إذا تفكّر فيها، ورأى تقلّب الدنيا بأهلها، وتتابع نكباتها إلى أعيان قاطنيها، وأنّها سلبت نفوسهم وذخائرهم، وأعدمت أصاغرهم وأكابرهم، فلم تُبقِ على جليل ولا حقير، ولم يسلم من نكدها غنيّ ولا فقير، زهد فيها وأعرض عنها، وأقبل على التزوّد للآخرة منها، ورغب في دار تنزّهت عن هذه الخصائص، وسلم أهلها من هذه النقائص، ولعلّ قائلاً يقول: ما نرى ناظراً فيها زهد في الدنيا، وأقبل على الآخرة ورغب في درجاتها العليا، فيا ليت شعري كم رأى هذا القائل قارئاً، للقرآن العزيز، وهو سيّد المواعظ وأفصح الكلام، يطلب به اليسير من هذا الحطام؟ فإنّ القلوب مولعة بحبّ العاجل.
ومنها التخلّق بالصبر والتأسّي وهما من محاسن الأخلاق، فإن العاقل إذا رأى أن مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرَّم، ولا ملك معظّم، بل ولا أحد من البشر، علم أنه يصيبه ما أصابهم، وينوبه ما نابهم.
ولهذه الحكمة وردت القصص في القرآن المجيد {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق: 50: 37] فإن ظنّ هذا القائل أن الله سبحانه أراد بذكرها الحكايات والأسمار فقد تمسّك من أقوال الزيغ بمحكم سببها حيث قالوا: هذه أساطير الأوّلين اكتتبها.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا قلباً عقولاً ولساناً وصادقاً، ويوفقنا للسداد في القول والعمل، هو حسبنا ونعم الوكيل.

.ذكر الوقت الذي ابتدئ فيه بعمل التاريخ في الإسلام:

قيل: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة أمر بعمل التاريخ، والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب أمر بوضع التاريخ.
وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر: إنّه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرّخْ لمبعث النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: بل نؤرخ لمهاجرة رسول الله، فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل؛ قاله الشعبيّ.
وقال ميمون بن مهران: رفع إلى عمر صكّ محلّه شعبان فقال: أيّ شعبان؟ أشعبان الذي هو آتٍ أم شعبان الذي نحن فيه؟ ثمّ قال لأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال بعضهم: اكتبوا علي تاريخ الروم فإنهم يؤرخون من عهد ذي القرنين، فقال: هذا يطول، فقال: اكتبوا على تاريخ الفرس، فقيل: إن الفرس كلّما قام ملك طرح تاريخ من كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة، فوجدوه عشر سنين، فكتبوا التاريخ من هجرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن سيرين: قام رجل إلى عمر فقال: أرّخوا، فقال عمر: ما أرّخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر: حسن، فأرّخوا، فاتفقوا على الهجرة ثم قالوا: من أي الشهور؟ فقالوا: من رمضان، ثمّ قالوا: فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام، فأجمعوا عليه.
وقال سعيد بن المسيب: جمع عمر الناس فقال: من أيّ يوم نكتب التاريخ؟ فقال عليّ: من مهاجرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفراقه أرض الشرك، ففعله عمر.
وقال عمرو بن دينار: أوّل من أرّخ يعلى بن أميّة وهو باليمن.
وأمّا قبل الإسلام فقد كان بنو إبراهيم يؤرخون من نار إبراهيم إلى بنيان البيت حين بناه إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، ثمّ أرّخ بنو إسماعيل من بنيان البيت حتى تفرقوا، فكان كلّما خرج قومٌ من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة بني زيد من تهامة حتى مات كعب بن لؤي وأرّخوا من موته إلى الفيل، ثمّ كان التاريخ من الفيل حتى أرّخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة.
وقد كان كلّ طائفة من العرب تؤرّخ بالحادثات المشهورة فيها، ولم يكن لهم تاريخ يجمعهم، فمن ذلك قول بعضهم:
ها أنا ذا آمل الخلود وقد ** أدرك عقلي مولدي حجرا

وقال الجعديّ:
فمن يك سائلاً عني فإني ** من الشبّان أيّام الختان

وقال آخر:
وما هي إلاّ في إزار وعلقة ** بغار ابن همّام على حيّ خثعما

وكلّ واحد أرّخ بحادث مشهور عندهم، فلو كان لهم تاريخ يجمعهم لم يختلفوا في التاريخ، واللّه أعلم.

.القول في الزمان:

الزمانُ عبارة عن ساعات الليل والنهار، وقد يقال ذلك للطويل والقصير منهما، والعرب تقول: أتيتك زمان الصّرام؛ وزمان الصّرام يعني به وقت الصّرام، وكذلك: أتيتك أزمان الحجّاج أمير، ويجمعون الزمان يريدون بذلك أنّ كلّ وقت من أوقات إمارته زمن من الأزمنة.

.القول في جميع الزمان من أوله إلى آخره:

اختلف الناس في ذلك فقال ابن عبّاس من رواية سعيد بن جبير عنه: سبعة آلاف سنة.
وقال وهب بن منبّه: ستة آلاف سنة، قال أبو جعفر: والصحيح من ذلك ما دلّ على صحته الخبرُ الذي رواه ابن عمر عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «أجلكم في أجل من قبلكم، من صلاة العصر إلى مغرب الشمس».
وروى نحو هذا المعنى أنس وأبو سعيد إلاّ أنهما قالا إنه قال: إلى غروب الشمس، وبدل صلاة العصر: بعد العصر، وروى أبو هريرة عن البنيّ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «بُعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى.
وروى نحوه جابر بن سمرة، وأنس، وسهل بن سعد، وبريدة بن الحصيب، والمستورد بن شدّاد، وأشياخ من الأنصار كلهم عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
وهذه أخبار صحيحة.
قال: وقد زعم اليهود أن جميع ما ثبت عندهم على ما في التوراة من لدن خلق آدم إلى الهجرة أربعة آلاف سنة وست مئة واثنتان وأربعون سنة.
وقالت اليوناينة من النصارى: إن من خلق آدم إلى الهجرة خمسة آلاف سنة وتسع مئة واثنتين وتسعين سنة وشهراً.
وزعم قائل أن اليهود إنما نقصوا من السنين دفعاً منهم لنبوة عيسى، إذ كانت صفته ومبعثه في التوراة، وقالوا: لم يأت الوقت الذي في التوراة أن عيسى يكون فيه، فهم ينتظرون بزعمهم خروجه ووقته.
قال: وأحسب أن الذي ينتظرونه ويدّعون صفته في التوراة هو الدجال.
وقالت المجوس: إن قدر مدة الزمان من لدن ملك جيومرث إلى وقت الهجرة ثلاثة آلاف ومائة وتسع وثلاثون سنة، وهم لا يذكرون مع ذلك شيئاً يُعرف فوق جيومرث ويزعمون أنّه هو آدم.
وأهل الأخبار مختلفون فيه، فمن قائل مثل قول المجوس، ومن قائل: إنه يسمى بآدم بعد أن ملك الأقاليم السبعة وإنه حام بن يافث بن نوح، وكان بارّاً بنوح، فدعا له ولذريته بطول العمر، والتمكين في البلاد، واتصال الملك، فاستجيب له، فملك جيومرث وولده الفرس، ولم يزل الملك فيهم إلى أن دخل المسلمون المدائن وغلبوهم على ملكهم، ومن قائل غير ذلك؛ كذا قال أبو جعفر.
قلت: ثمّ ذكر أبو جعفر بعد هذا فصولاً تتضمّن الدلالة على حدوث الأزمان والأوقات، وهل خلق الله قبل خلق الزمان شيئاً أم لا؟ وعلى فناء العالم وأن لا يبقى إلاّ الله تعالى، وأنّه أحدث كلّ شيء، واستدلّ على ذلك بأشياء يطول ذكرها ولا يليق ذلك بالتواريخ لا سيما المختصرات منه، فإنه بعلم الأصول أولى، وقد فرغ المتكلّمون منه في كتبهم فرأينا تركه أولى.
بُرَيْدَة: بضم الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخرها هاء.

.القول في ابتداء الخلق وما كان أوله:

صحّ في الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه عبادة بن الصامت أنّه سمعه يقول: «إنّ أول ما خلق الله تعالى القلم، وقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن» وروي نحو ذلك عن ابن عباس.
وقال محمد بن اسحاق: أول ما خلق الله النور والظلمة، فجعل الظلمة ليلاً أسود، وجعل النور نهاراً أبيض مضيئاً، والأول أصحّ للحديث، وابن اسحاق لم يسند قوله إلى أحد.
واعترض أبو جعفر علي نفسه بما روى سفيان عن أبي هاشم، عن مجاهد، عن ابن عبّاس أنّه قال: إن اللّه تعالى كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فكان أوّل ما خلق اللّه القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة؛ وأجاب بأن هذا الحديث إن كان صحيحاً فقد رواه شعبة أيضاً عن أبي هاشم ولم يقل فيه: إن الله كان على عرشه، بل روى أنّه قال: أوّل ما خلق الله القلم.

.القول فيما خُلِق بعد القلم:

ثمّ إنّ الله خلق، بعد القلم وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، سحاباً رقيقاً، وهو الغمام الذي قال فيه النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وقد سأله أبو رزين العقيلي: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: في غمام ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثمّ خلق عرشه على الماء، وهو الغمام الذي ذكره الله في قوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} قلت: هذا فيه نظر، لأنه قد تقدم أن أوّل ما خلق الله تعالى القلم وقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة، ثمّ ذكر في أوّل هذا الفصل أن الله خلق بعد القلم وبعد أن جرى بما هو كائن سحاباً، ومن المعلوم أن الكتابة لا بدّ فيها من آلة يُكتبُ بها، وهو القلم، ومن شيء يكتب فيه، وهو الذي يعبّر عنه ههنا باللوح المحفوظ، وكان ينبغي زن يذكر اللوح المحفوظ ثانياً للقلم، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون ترك ذكره لزنه معلوم من مفهوم اللفظ بطريق الملازمة. ثمّ اختلف العلماء فيمن خلق الله بعد الغمام، فروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عبّاس: أول ما خلق الله العرش، فاستوى عليه، وقال آخرون: خلق الله الماء قبل العرش، وخلق العرش فوضعه على الماء؛ وهو قول أبي صالح عن ابن عباس، وقول ابن مسعود، ووهب بن منبه.
وقد قيل: إن الذي خلق الله تعالى بعد القلم الكرسي، ثم العرش، ثم الهواء، ثم الظلمات، ثم الماء فوضع العرش عليه.
قال: وقول من قال: إن الماء خلق قبل العرش، أولي بالصواب لحديث أبي رزين عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد قيل: إن الماء كان على متن الريح حين خلق العرش؛ قاله سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، فإن كان كذلك فقد خلقا قبل العرش.
وقال غيره: إن الله خلق القلم قبل أن يخلق شيئاً بألف عام.
واختلفوا أيضاً في اليوم الذي ابتدأ الله تعالى فيه خلق السموات والأرض، فقال عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد: ابتداء الخلق يوم الأحد.
وقال محمد بن اسحاق: ابتداء الخلق يوم السبت، وكذلك قال أبو هريرة.
واختلفوا أيضاً فيما خَلَقَ كلّ يوم، فقال عبد الله بن سلام: إن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين يوم الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات يوم الخميس والجمعة، ففرغ آخر ساعة من الجمعة فخلق فيها آدم، عليه السلام، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
ومثله قال ابن مسعود وابن عبّاس من رواية أبي صالح عنه، إلاّ أنّهما لم يذكرا خلق آدم ولا الساعة.
وقال ابن عبّاس من رواية عليّ بن أبي طلحة عنه: إنّ الله تعالى خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها، ثمّ استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثمّ دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله تعالى {والأرض بعد ذلك دحاها} النازعات: 79: 30 وهذا القول عندي هو الصواب.
وقال ابن عبّاس أيضاً من رواية عكرمة عنه: إنّ الله تعالى وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثمّ دُحيت الأرض من تحت البيت، ومثله قال ابن عمر.
وروى السّديّ عن أبي صالح، وعن أبي مالك عن ابن عبّاس، وعن مُرّة الهمداني وعن ابن مسعود في قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات} البقرة: 2: 29، قال: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً، فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسمّاه سماءً، ثمّ أيبس الماء فجعله أرضاً واحدةً، ثمّ فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين: يوم الأحد ويوم الأثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوت النون الذي ذكره الله تعالى في القرآن في قوله: {ن والقلم} القلم: 68: 1، والحوت في الماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوتُ، فاضطربت وتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، والجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم} قال ابن عباس والضحاك ومجاهد وكعب وغيرهم: كل يوم من هذه الأيام الستة التي خلق الله فيها السماء والأرض كألف سنة.
قلت: أما ما ورد في هذه الأخبار من أن الله تعالى خلق الأرض في يوم كذا والسماء في يوم كذا، فإنما هو مجاز، وإلا فلم يكن ذلك الوقت أيام وليال، لأن الأيام عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها، والليالي عبارة عما بين غروبها وطلوعها، ولم يكن ذلك الوقت سماء ولا شمس، وإنما المراد به أنه خلق كل شيء بمقدار يوم، كقوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشيّاً} مريم: 19: 62 وليس في الجنة بكرة وعشىً.
سلام: والدُ عبد الله، بتخفيف اللام.